فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل المرام من تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآية رقم (34):

الآية الثانية عشرة:
{الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)}.
{الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي استحق بها الرجال الزيادة، كأنه قيل: كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم يشاركهم فيه النساء؟ فقال: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}. والمراد أنهم يقومون بالذّب عنهنّ كما يقوم الحكام والأمراء بالذبّ عن الرعية، وهم أيضا يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن، وجاء بصيغة المبالغة في قوله: {قَوَّامُونَ}، ليدلّ على أصالتهم في هذا الأمر. والباء في قوله: {بِما فَضَّلَ اللَّهُ} للسببية، الضمير في قوله: {بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} للرجال والنساء: أي إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل اللّه إياهم عليهنّ بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة وغير ذلك من الأمور.
{وَبِما أَنْفَقُوا}: أي بسبب ما أنفقوا {مِنْ أَمْوالِهِمْ}: وما مصدرية أو موصولة وكذلك هي في قوله: بما فضل اللّه، ومن تبعيضية. والمراد ما أنفقوه في الإنفاق على النساء وبما دفعوه في مهورهنّ من أموالهم، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في العقل والدية.
وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها وبه قال مالك والشافعي وغيرهما.
{وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ}: هذا خطاب للأزواج، قيل: الخوف هنا على بابه، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه، أو عند ظنّ حدوثه، وقيل: المراد بالخوف هنا العلم.
والنشوز: العصيان، قال ابن فارس يقال: نشزت المرأة استعصت على زوجها، ونشز بعلها إذا ضربها وجفاها.
{فَعِظُوهُنَّ} أي ذكروهنّ بما أوجبه اللّه عليهنّ من الطاعة وحسن العشرة ورغبوهنّ ورهبوهنّ.
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ}: يقال: هجره: أي تباعد منه، والمضاجع: جمع مضجع وهو محل الاضطجاع: أي تباعدوا عن مضاجعهنّ ولا تدخلوهنّ تحت ما تجعلونه عليكم حال الإضجاع مع الثياب.
وقيل: هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع، وقيل: هو كناية عن ترك جماعها.
وقيل: لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه.
{وَاضْرِبُوهُنَّ} أي ضربا غير مبرح، ولا شائن.
وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز، وقيل: إنه لا يهجر إلا بعد عدم تأثير الوعظ، فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} كما يجب وتركن النشوز {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أي لا تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا فعل.
وقيل: المعنى لا تكلفوهنّ الحبّ لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهنّ.

.تفسير الآية رقم (35):

الآية الثالثة عشرة:
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)}.
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها}: أصل الشقاق أن كل واحد منهما يأخذ شقا غير شق صاحبه: أي ناحية غير ناحيته، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ}، وقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار، والخطاب للأمراء والحكام، والضمير في قوله: {بَيْنِهِما} للزوجين لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما وهو ذكر الرجال والنساء فابعثوا إلى الزوجين حكما يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلا ودينا وإنصافا.
وإنما نص اللّه سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين لأنهما أقرب لمعرفة أحوالهما، وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم، وهذا إذا أشكل أمرهما ولم يتبين من هو المسيء منهما. فأما إذا عرف المسيء فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فإن قدرا على ذلك عملا عليه وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ولا توكيل بالفرقة من الزوجين وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعليّ وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا: لأن اللّه قال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها}، وهذا نص من اللّه سبحانه على أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان.
وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحسن- وهو أحد قولي الشافعي- إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما، ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهما الإمام والحاكم، لأنهما رسولان لا شاهدان فليس إليهما التفريق. ويرشد إلى هذا قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدا} أي الحكمان، {إِصْلاحاً}: بين الزوجين، {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما} أي يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن العشرة.
ومعنى الإرادة خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين، وقيل: إن الضمير في قوله: {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما}- للحكمين، كما في قوله: {إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً}. أي يوفق اللّه بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما، وقيل: كلا الضميرين للزوجين، أي إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع اللّه تعالى بينهما الألفة والوفاق، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف.

.تفسير الآية رقم (36):

الآية الرابعة عشرة:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (36)}.
{وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} مصدر لفعل محذوف أي أحسنوا بالوالدين إحسانا. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع.
وقد دل ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة اللّه والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله: {اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ}- فأمر سبحانه بأن يشكرا معه.
{وَبِذِي الْقُرْبى}: أي صاحب القرابة وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيدا.
{وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ}: قد تقدم تفسيرهما. والمعنى أحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية.
{وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى} والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة.
وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم. سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن للجوار حرمة مرعية مأمورا بها. وفيه ردّ على من يظن أن الجار مخصوص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو مختص بالقريب دون البعيد.
وقيل: المراد بقوله: {وَالْجارِ الْجُنُبِ}: هنا هو الغريب، وقيل هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له. وقرأ الأعمش والمفضل {وَالْجارِ الْجُنُبِ} بفتح الجيم وسكون النون أي ذي الجنب وهو الناحية. وأنشد الأخفش:
الناس جنب والأمير جنب

وقيل: المراد بالجار ذي القربى: المسلم، وبالجار الجنب: اليهودي والنصراني.
وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي عليه يصدق مسمى الجار ويثبت لصاحبه الحق: فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حد أربعين دارا من كل ناحية، وروي عن الزهري نحوه.
وقيل: من سمع إقامة الصلاة، وقيل: إذا جمعتهما محلة.
وقيل: من سمع النداء. والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع، فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جارا إلى حد كذا من الدور أو من مسافة الأرض كان العمل عليه متعينا، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة وعرفا.
ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضا ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة: المجاور ويطلق على معان، قال في القاموس: الجار المجاور، والذي أجرته من أن يظلم، والمجير والمستجير، الشريك في التجارة، وزوج المرأة، وهي جارته، وفرج المرأة، وما قرب من المنازل، والاست كالجارة، والمقاسم، والحليف، والناصر. انتهى.
وقال القرطبي في تفسيره: وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال: إني نزلت محلّة قوم وإن أقربهم إليّ جوارا أشدهم لي أذى! فبعث النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أبا بكر وعمر وعليّا رضي اللّه عنهم يصيحون على أبواب المساجد: «ألا إن أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه». انتهى.
قال الشوكاني: ولو ثبت هذا لكان مغنيا عن غيره، ولكنه رواه- كما ترى- من غير عزوه إلى أحد كتب الحديث المعروفة وهو وإن كان إماما في علم الرواية فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ولا نقل عن كتاب مشهور، ولا سيما وهو يذكر الواهيات كثيرا كما يفعل في تذكرته انتهى.
أقول: هذا الحديث بلفظه أخرجه الطبراني كما ذكر في الترغيب والترهيب وروى السيوطي في جامعه الصغير: «الجوار أربعون دارا». أخرجه البيهقي عن عائشة.
قال المناوي في شرحه: وروي عن عائشة: «أوصاني جبريل بالجار أربعين دارا».
وكلاهما ضعيف. والمعروف المرسل الذي أخرجه أبو داود، هكذا نقل عن السيوطي ثم قال: ولفظ مرسل أبي داود: «حق الجوار أربعون دارا، هكذا وهكذا، وهكذا» وأشار قداما ويمينا وخلفا. قال الزركشي: سنده صحيح، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، ورواه أبو يعلى عن أبي هريرة مرفوعا باللفظ المذكور لكن قال ابن حجر: في سنده عبد السلام منكر الحديث، فليحفظ.
وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة! قال اللّه تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ} إلى قوله: {ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (60)} فجعل اجتماعهم في المدينة جوارا.
وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة.
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: قيل: هو الرفيق في السفر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك.
وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى: هو الزوجة.
وقال ابن جريح: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك. ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب:
أي بجنبك. كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك.
{وَابْنِ السَّبِيلِ}: قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك مارّا، والسبيل: الطريق، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه. فالأولى تفسيره بمن هو على سفر فإن على المقيم أن يحسن إليه وقيل: هو المنقطع به، وقيل: هو الضيف.
وأحسنوا إلى: {وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} إحسانا. وهم العبيد والإماء. وقد أمر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ويلبسون مما يلبس، وقد ورد مرفوعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في بر الوالدين وفي صلة القرابة وفي الإحسان إلى اليتامى وفي الإحسان إلى الجار وفي القيام بما يحتاج إليه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليه كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا.

.تفسير الآية رقم (43):

الآية الخامسة عشرة:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} جعل الخطاب خاصا بالمؤمنين لأنهم الذين كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى.
{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} قال أهل اللغة: إذا قيل لا تقرب- بفتح الراء- كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدنوا منه. والمراد النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها، وبه قال جماعة من المفسرين وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال آخرون:
المراد مواضع الصلاة، وبه قال الشافعي. وعلى هذا فلا بدّ من تقدير مضاف ويقوّي هذا قوله: {وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}. وقالت طائفة: المراد الصلاة ومواضعها معا، لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين فكانا متلازمين.
{وَأَنْتُمْ سُكارى}: الجملة في محل نصب على الحال وسكارى جمع سكران، مثل كسالى جمع كسلان.
وقرأ النخعي سكارى بفتح السين وهو تكسير سكران. وقرأ الأعمش سكرى كحبلى صفة مفردة. وقد ذهب كافة العلماء إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر، إلا الضحاك فإنه قال: المراد سكر النوم، ولم يعن بها الخمر. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: النعاس وقد أخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي- وحسنه- والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- في المختارة عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: صنع لنا عبد الرحمن طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة وقدموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل اللّه هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه: أن الذي صلى بهم عبد الرحمن. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال: نزلت في أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد صنع لهم علي رضي اللّه عنه طعاما وشرابا، فأكلوا وشربوا ثم صلى بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون حتى ختمها فقال: ليس لي دين وليس لكم دين، فنزلت.
وهذا سبب نزول الآية وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال.
{حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ}: هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر: أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه، فإن السكران لا يعلم ما يقوله. وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع، لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاووس وعطا و القاسم وربيعة وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني، واختاره الطحاوي، وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس.
وأجازت طائفة وقوع طلاقه، وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي.
واختلف قول الشافعي في ذلك.
وقال مالك: يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع.
{وَلا جُنُباً}: عطف على محل الجملة الحالية وهي قوله: {وَأَنْتُمْ سُكارى}.
والجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب. قال الفراء:
يقال: جنب الرجل وأجنب من الجنابة.
وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب مثل عنق وأعناق وطنب وأطناب.
{إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} استثناء مفرّغ، أي لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل، والمراد به هنا السفر. ويكون محل هذا الاستثناء المفرّغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية وهي قوله: {وَلا جُنُباً}، لا بالحال الأولى وهي قوله: {وَأَنْتُمْ سُكارى} فيصير المعنى لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم. وهذا قول عليّ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم، قالوا: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم لأن الماء قد يعدم في السفر، لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم.
وقال ابن مسعود وعكرمة والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي: عابر السبيل هو المجتاز في المسجد، وهو مرويّ عن ابن عباس. فيكون معنى الآية على هذا: لا تقربوا مواضع الصلاة- وهي المساجد- في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب. وفي القول الأوّل قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر وأن معناه: أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء، كما يكون في المسافر.
وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم التكلف في معنى قوله: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}، وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها.
وبالجملة فالحال الأولى أعني قوله: {وَأَنْتُمْ سُكارى} تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف، وكذلك سبب نزول الآية يقوي ذلك.
وقوله: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} يقوّي تقدير المضاف: أي لا تقربوا مواضع الصلاة.
ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي أعني {لا تَقْرَبُوا} وهو قوله: {وَأَنْتُمْ سُكارى} يدل على أن المراد مواضع الصلاة.
ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه، ويكون ذلك نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما لا تقربوا الصلاة هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب.
وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور.
وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: والأولى قول من قال: {وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}: إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}، فكان معلوما بذلك أن قوله: {وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، لو كان معنيّا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره- في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ}- معنى مفهوما، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك. فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل.
قال وعابر السبيل: المجتازه مرا وقطعا. يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه.
قال ابن كثير: وهذا الذي نصره- يعني ابن جرير- هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية. انتهى. {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}: غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة، والمعنى: لا تقربوه حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى}: المرضى عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ. وهو على ضربين، كثير ويسير.
والمراد هنا أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء، أو كان ضعيفا في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء.
وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات، وهذا باطل يدفعه قوله: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}. {أَوْ عَلى سَفَرٍ}: فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر. والخلاف مبسوط في كتب الفقه.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر، وقال قوم: لابد من ذلك. وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر. واختلفوا في الحاضر، فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر.
وقال الشافعي: ويجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف.
{أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}: هو المكان المنخفض، والمجيء منه كناية عن الحدث، والجمع الغيطان والأغواط. وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا توسعا. ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء.
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ}: وهو قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، وقرأ حمزة والكسائي: لمستم. قيل: المراد بما في القراءتين الجماع، وقيل: المراد به مطلق المباشرة، وقيل: إنه يجمع الأمرين جميعا.
وقال محمد بن زيد: الأولى في اللغة أن يقون لامستم بمعنى قبلتم ونحوه، ولمستم بمعنى غشيتم.
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال: فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع. قالوا: والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود.
قال ابن عبد البر: لم يقل بقولهما في هذا أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار. انتهى.
وأيضا الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث عمار وعمران بن حصين وأبي ذرّ في تيمم الجنب. وقالت طائفة: هو الجماع، كما في قوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}، وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}، وهو مروي عن علي عليه السلام وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وطاووس والحسن وبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل وابن حيان وأبي حنيفة.
وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا. حكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة.
وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقض لقوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}. وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه، و ليس الأمر كذلك، فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ أو لمستم وهي محتملة بلا شك ولا شبهة، مع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل.
وهذا الحكم تعمّ به البلوى ويثبت به التكليف العام فلا يحل إثباته بمحتمل قد وقع النزاع في مفهومه.
وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء، فكان الجنب داخلا بهذا الدليل، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك.
وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالا بهذه الآية، لما عرفت من الاحتمال.
وأما ما استدلوا به من أنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أتاه رجل فقال: يا رسول اللّه ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ فأنزل اللّه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)} أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ قالوا: فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها.
ولا يخفاك أنه لا دلالة لهذا الحديث على محل النزاع، فإن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها اللّه سبحانه في هذه الآية إذ لا صلاة إلا بوضوء وأيضا فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة وأيضا قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت: كان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ. وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة.
رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وما قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة- ولم يسمع من عروة- فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ورواه ابن جرير من حديث ليث عن عطاء عن عائشة، ورواه أحمد أيضا وأبو داود والنسائي من حديث أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي عن عائشة، ورواه أيضا ابن جرير من حديث أم سلمة، ورواه أيضا من حديث زينب السهمية.
ولفظ حديث أم سلمة: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يقبلها وهو صائم ولا يفطر ولا يحدث وضوءا.
ولفظ حديث زينب السهمية أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ. ورواه فأحمد عن زينب السهمية عن عائشة.
{فَلَمْ تَجِدُوا ماءً}: هذا القيد إن كان راجعا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط وهو المرض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء، كان فيه دليل على أن المرض والسفر لمجردهما لا يسوّغان التيمم، بل لابد مع وجود أحد السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد الماء، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء.
ولكنه يستشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم، وكذلك المقيم كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم فلابد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر؟
فقيل: وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب. وإن كان راجعا إلى الصورتين الأخيرتين أعني قوله: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم وإن كان واجدا للماء قادرا على استعماله.
وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرا في الأوّلين لندرة وقوعه فيهما: وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد.
وقال مالك ومن تابعه: ذكر اللّه المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارا بالأغلب فيمن لم يجد الماء، بخلاف الحاضر، فإن الغالب وجوده فلذلك لم ينص اللّه سبحانه عليه. انتهى.
والظاهر أن المرض- بمجرّده- مسوغ للتيمم وإن كان الماء موجودا إذا كان يتضرّر باستعماله في الحال أو في المال، ولا يعتبر خشية التلف فاللّه سبحانه يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، ويقول: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، والنبي صلّى اللّه عليه وآله يقول: «الدين يسر»، ويقول: «يسروا ولا تعسروا». وقال: «قتلوه قتلهم اللّه» ويقول: «أمرت بالشريعة السمحة». فإذا قلنا إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضرّه، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضرّه، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنته لعجزه عن الطلب، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف.
وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنته لإعواز الماء وبعض البقاع دون بعض.
{فَتَيَمَّمُوا}: التيمم لغة: القصد، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب.
وقال ابن الأنباري في قولهم: قد تيمم الرجل: معناه قد مسح التراب على وجهه.
وهذا خلط للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي! فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين، وإنما هو معنى شرعي فقط.
وظاهر الأمر الوجوب وهو مجمع على ذلك والأحاديث في هذا الباب كثيرة وتفاصيل التيمم وصفاته مبينة في السنة المطهرة، ومقالات أهل العلم مدونة في كتب الفقه.
{صَعِيداً} هو وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن، قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج.
قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة. قال اللّه تعالى: {وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)} أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا، وقال اللّه تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40)}، وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صعدات.
وقد اختلف أهل العلم فيما يجزئ التيمم به، فقال مالك وأبو حنيفة والثوري والطبري: إنه يجزئ بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة، وحملوا قوله: {طَيِّباً} قالوا: والطيب التراب الذي ينبت.
وقد تنوزع في معنى الطيب فقيل: الطاهر كما تقدم، وقيل: المنبت كما هنا، وقيل: الحلال. والمحتمل لا يقوم به الحجة ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز، لكان الحق ما قاله الأولون. لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «فضلنا الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء». وفي لفظ: «وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» وفي لفظ: «وجعل ترابها لنا طهورا».
فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مفيد لإطلاقه. ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد: أي أخذ من غباره. انتهى. والحجر الصلد ما لا غبار عليه.
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}: هذا المسح مطلق بتناول المسح بضربة أو ضربتين، ويتناول المسح إلى المرفقين أو الرسغين، وقد بينته السنة بيانا شافيا. وقد جمع الشوكاني بين ما ورد في المسح بضربة أو بضربتين وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحه للمنتقى وغيره من مؤلفاته بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
والحاصل أن أحاديث الضربتين لا يخلو جميع طرقها من مقال ولو صحت لكان الأخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة. فالحق الوقوف والعمل على ما في الصحيحين من حديث عمار المقتصر على ضربة واحدة حتى تصح وتثبت الزيادة على ذلك المقدار الثابت.